2021-05-03

الطيب بوعلاق "الإلتفاف والإلتفات" الكتابة تشطب الطريق

 بقلم الشاعر منذر العيني 

تصدير:

الكتابة بالفصحى تعلو. الكتابة بالدّارج لا تُعلي.أو العكس؟ للمنشئ أن تدور رحاه على مفارقة كهذه تستنزف الجهد في مغالبة الطّريف داخل بنية الدّارج وتحفزّ البحث عن المفكّر والجدير في بنية الفصيح. لايفوت الأوان دائما مادام الجهدُ مادام البحثُ مادامت الكتابة رَحِمًا تلد التوائم أخذا بأخذ وردّا بردّ في شبهة غير معهودة. ولادة فريدة لشعريّة تتقّد فيها الحماسة ويشتعل فيها السّؤال بينما الوجوه تتقلّب بين المعاني والأنصاف عساها تنصف الطّيّب بوعلاّق حقّه وتحتفي بالألواح الجديدة وهي تداوم في السّؤال كيف للفصحى أن تلتفّ بالأخرى ويعلو الإنفعال من زاواجات في الضّيق والمعضلة.

تقديم:

إنّ مردويّة الوعي العالي في فترة النّظام السّابق مع حلول تسعينات القرن الماضي وسّعت من دائرة التلقّي للتّجارب الشّعريّة وخاصّة فيما يُنعتُ أنذاك بقضايا الإلتزام ممّا حتّم نشوء تلامذة تتدرّج في الأخذ والإنتماء لهذه الفصيلة من الشّعراء.

الطيّب بوعلاّق اِنخرط في التمشّي المعارض للتسلُّط لا تملكهُ قرائن نظريّة يساريّة بالضّبط لكنّه نشأ في موجة هذا التداول الكلامي لمحفوظات محكيّة تؤكّد على المجابهة والإنتصار للعدل والحريّة وتركن للحكمة في أبيات”أحمد البرغوثي وعبادة السّعيدي….” وتسرج نفسها من تعاضديات في المحكيّ المصري نافذة في كينونة الطلبة ورفقة الصفّ”عبد الرحمان الأبنودي وأحمد فؤاد نجم..” هم ينهلون من أشعار ومدوّنات الفصحى لدرويش والماغوط وغيرهم من أعلام المدرسة الحداثيّة المعاصرة إضافة إلى أغاني مارسال وناس الغيوان ومواويل الجنوب بأوجاع البحث الموسيقي رفقة اليعقوبي وآدم فتحي و كمال الغالي..مثّلت منطلقات ضمن روافد غائرة من قراءات لمنعطفات الشّعرية العربيّة القديمة الحماسيّة عزّزت مناخا ملائما لضرورة الأداء الإيجابي كلّف ذلك ما كلّف والإتّجاه كان ترسيخَ ذات تستمرُّ في العناد حتّى يشاء الإنتفاض .

لا يمكن أن نفيَ هذا التأطير حقّهُ والعملُ متواصلٌ ينقصُ ويزيدُ والورشةُ مفتوحةٌ دائما للشّمسِ والعرض والتبئير.

دوّن بوعلاّق نصوصهُ في الجرائدِ على غرار جريدة الشّعب لسان الإتحاد العام التونسي للشّغل وسابق الطّباعة بالنشر في دوريّات إلكترونيّة وآنتقل بين المنابر في كثير من الملتقيات المفتوحة مثل ملتقى الشّعراء النقابيين حتّى اِستقرّ به المقام في إنشاء مدوّنة خاصّة به أثّثها بالقصائد والأغاني والقوليّات وسائر شتات الأفكار حتّى ينير قارئه بعالمه المخصوص في الإنشاء بين الفصحى والمحكيّ.

إنشاءٌ يدوّر على الإمضاء الفريد. نصوصٌ نتعهدّها من خلال عيّنات لاهي فصيحة ولا هي محكيّة بل هي محكيّة تناشد الفصحى يتشابك فيها اللّفظ باللّفظ والصّدور ألعابٌ وأتعابٌ يجيدها المنشئُ.

فكيف تلتفُّ السّاقُ بالسّاقِ والقيامةُ أناشيدُ وتعابيرُ لاتخلُصُ وهيَ تُعمّرُ قماشتهُ بشتّى ضروب والنّذور. هل يمكنُ فعلا أن نصنّفها؟ هذه الذّات الكاتبة المادّةُ دائما, رغم الجزرِ والخيانات والصُّروف والعقوق. يبدو أنّ الإقتفاء دائما لا يُصدِّقُ الصّوت والصّدى يملأُ المكان بينما الشّعر يعلو بفصيحهِ ومحكيِّهِ من بوعلاّق. كيف لنا أن نطوّق دوائرهُ الأولى حتّى نقف عند آلتماس نراهن على كينونة شعريّة تونسيّة فريدة من نوعها لا تتكاثر بسهولة ولا تجترّ سابقها لذّةً في الإستمناء.

ذلك ما نروم إضاءتهُ من خلال هذا التتّبع المجداف حتّى نلمسَ حياةً ونطلّ على الأسباب.

الإلتفافُ والإلتفاتُ

نبدأُ من سرديّة الإلتقاء بين هذه المحكيّات في مقولتها المخصوصة للدّارجة التونسيّة وهذه الفصحى الّتي تبدأُ في الإنزياح عن المألوف من الأبيات والسّطور لغةً يمكن أن تنزل المنزلتين ففي قصيدة غياب: 

(في غيابْ ليلْ عيونكْ ليلْ المدينه شاتي

والنّاس ريت حياتهم مِتعثرهْ فِخطواتهم

مِتلعثمهْ وسكاتهم نابت وجعْ في سكاتي )

نقربُ شيئا فشيئا بهذا المجهر المنتقي للملفوظ الفصيح كيف يحسن آداءَهُ بالتّونسي لنحوّلَ بالتجربة والإختبار أداءه بالفصحى فيغدو الأمر ينزعُ إلى دورٍ في التمثيلِ بالمحكيّ وينزعُ إلى دورٍ في تلقّف المعنى والبيان على أساس البنية الفصيحة تداولاً بتداولٍ والعلامة لا يغرّنها العمل في الوظيفتين. فنسمعُ الدّارجَ ونفهمُ المعادلَ لينشأَ تركيبٌ دلاليٌّ تنفعلُ مع الذّات القارئةِ وتلتحمُ مع الذّات الباثّةِ لقربِ الأواصر بينهما.أليسَ هذا الأمرُ سهلاً؟ ليسَ سهلاً بالمرّةِ في شعريّةٍ يضعُ متلقفَّها من الوهلةِ الأولى مقامها للقريبِ من الشّعريّةِ الشّعبيّة وهيَ ليست كذلكَ. تعميةٌ منه بوعلاّق وتقنية نافذةٌ في إيصالِ الإضاءات الدّلاليّة للمنصتِ والمقامُ مشافهةٌ غيرَ أنّ القصدَ هو التفكيرُ في النّواحي الجماليّة الأولى من بلاغةٍ وتصوير ومواقف وتنوير والعَروضُ ضروبٌ أخرى من فنون التّصريف ومن صيغٍ للسّطور والصّدور و الأعجاز تنغلقُ وتنفتحُ وتنفتحُ وتنغلقُ.كلماتٌ تَخشنُ في الدّارجة فيجدُ لها وظيفة داخل الفصحى (شاتي _وشكاتهم..) وكلمات تَبعدُ في دارجتنا فيجدُ مكانا في صياغته (نابت,متبعثره,متلعثمه..) هي براهين على جدارة الصّانع وهو يُربكُ يحوّلُ يغيّرُ وينقلُ يحذفُ ويزيدُ.هنا في ورشته ليسَ هنالكَ كلمات نفايات وأخرى جواهر.لا. المزار مفتوح للتّجارب أيضا وهي تراكمُ سنونَ حياتهِ منطلقاتٍ وصلها وآستأنفَ منها مسيرتَهُ وأخرى هُو فيها يشكُّ لا يقنعُ ولكنّهُ مازالَ يتنفسّها في رحلةِ تِشوافٍ يصفُ ولا يكفٌّ.(مازالَ فيكْ الخيرْ مازالْ فيكْ أنفاسْ

يا حرفْ كِنَّهْ طيرْ حاملْ غُنى وأعراسْ

حملكْ جمر في ليلْ شاقي بحملهْ يميلْ

وحلمكْ سنابكْ خيلْ في أرضْ ما تِنداسْ

ومازالْ فيكْ أنفاسْ

أفتنظرون إلى هذا النموذج الرّائع في كيمياء كلاميّةضاغطةٍ لخّصتْ تقريبًا حالةَ هذا الوصف وهوَ يخاطبُ ذاتهُ المنشئِةَ. لا أتحدّثُ عن شعريّةٍ شعبيّةٍ عن ألسُنٍ لاكتْ وتلوكُ رحلاتٍ فائتةً ومفرداتٍ فالتةً يأخذنا الوصف كمنحى شعريٍّ مطلَقٌ يوجِبُ ويَسلبُ ولا ينتهي تماما كما في الرّياضيات من أينَ تدورُ وتلتفت يرصدنا الطيّب يراقبنا من المنظار.وصفٌ للشّعر بالشّعر {(والحرف(كأنّهُ)=كنّه)}

والجناسُ على أشُدِّهِ وتّارَ أعصاب (حامل_يحمله_حملك_حلمك) والطّباقُ بديعٌ حسَّن حالةَ الضدّ والترادف في آن أعمى سبيل اليقين(حامل عنى وأعراسْ حملك جمر في ليلْ) .

نصوصٌ تأكلُ من بعضها البعض يدركُ ذلكَ المنشئُ في التدفقّات الطلبيّة أسئلةً وجواباتٍ والتمنّي يُعجِزُ ويعجِزُ في آنٍ. اتّفاقاتٌ سريّةٌ يعقدها الشّاعرُ ليبرُزَ في الأخير نسقٌ يتمادى في المحكيّ فيما هو نصٌّ فصيحٌ يُغري بالمتابعةِ والتفكير يغرِزُهُ بالموروثِ الرّومنطقيِّ في (أنفاس_أعراس_وطير وليل وأرض لا تُداسُ..) ملامِحه في تأثيث نصوص تجوبُ تجاربَ ومناخات وتُرسي أخيرا في مجرّة هذا المحكيّ هذا الهجين الإيجابيّ الباعث للحيرةِ نستشفّ ذلك من جملة أسئلة عن جدوى تمثلّها هذه الإستعارة الكبرى وهي تتناوب بين التأصيل والتمثيل تمكّن بأفعالها ليختلَّ الرّأي ويعسر التشبيه.إستعارةٌ تيمةٌ أطّرت أثرَ الرّؤيا وقرّبتْ بالحسِّ والقصِّ تجربةً تغامرُ في شؤونِ الوجدِ والوجودِ والموقفُ بيّنٌ حيٌّ يصلُ ويُوصلُ الخبرَ بالإنشاء “أبدًا مؤقّتا” كما جاء على لسانهِ في مثالٍ هو كالآتي:

(كي سكنتْ إسمي وكنت الماءْ__لا آحتجت أرضْ ولا احتجتْ سماءْ_اغترّيتْ

قلت نِمدّ حتّى يطولْ ها البنيانْ__وفيَّ علا النسيانْ_واصبحت عبدْلحاجتي للماءْ

كي سكنتْ اسمي كان اسمي ترابْ وكنتْ ترابْ __تكتبني عا الوقت _صرتْ وانا ظلّي غرابْ

إنسانْ في إلهْ _إلهْ في إنسانْ_بنيانْ إسمو كيانْ وكيانْ كلّو خرابْ)

على هذه الوتيرةِ يقطنُ الإغماضُ ونصيرُ إزاءَ منحوتةٍ بالفصحى تقتضي تداولاً مخصوصًا للبرهنةِ على النشأةِ والتّكوينِ بينَ السّكونِ من جهةٍ والحركةِ من جهةٍ أخرى حيثُ المنشئُ جوّابُ أسئلةٍ من ملفوظاتهِ حيرةً تعمُّ المنصتَ في آرتقاءٍ شبيهٍ للمعاني تجوبُ آفاقًا أخرى تفتحُ صحّةَ القولِ أنّ الشّعرَ أيضا نواةُ تفكيرٍ يجمعُ صورةً وينثرها وعلى المتقبّل أن يكون في مستوى هذا الحدثِ حدثِ هذهِ الزّواجاتِ المحرّمةِ بينَ الفصيحِ و الدّارجِ والتّآويلُ شِيَعٌ وشذوذٌ حينَ ينشأُ إلتفافٌ في الحضيضِ الخشنِ المنسيِّ والهامشيِّ فيعلقُ هذا بذاك فيما آلتهُ تحاولُ صَهره بالإمكانِ والتحقّق تركيبا وتقفيةً وسردا وتزجيةًحتّى يُسمعَ مهاتفةً محسوبةً ويُشكّلَ صورةً واسعةً تقتربُ من الرّؤيةِ و اللّمسِ من خلالِ التفاتٍ غيرِ بريءٍ لروافدَ غائرةٍ في الدّمِ أمثالاً وأناشيدَ ذلكَ ما عزّزَ المقولةَ أنّ الكتابةَ لا تنطلقُ من البياض تشحذُ صيرورتها من الماضي و المخاضات لتشطبَ طريقها أي ترحل في مسيرتها بإيقاعها المخصوص استئنافا بآستئنافٍ والأحكامُ دائما معلّقةٌ في قضاءِ القارئ.

مسيرةُ رجلٍ شجاعٍ لهُ اللّيلُ واللّيلُ لهُ ينحو إلى اليسار دائما نظرا وتحقيقا هذه اليساريّةُ التونسيّةُ المخصوصةُ التّي ولدتهُ كائنا يحتفي بالكائناتِ الضّعيفةِ يغادرُ المكرَّرَ والجذريَّ ويصوّبُ نحو الفعلِ آداءَا ملائمًا في الإتّحادِ وخارجهُ في مشهديّةٍ يتعاضدُ فيها الشعريُّ بالملحميِّ”شربًا ساكْ”والكاسُ أخّاذةٌ في النّشيج يكوّرهُ حتّى لا ينام (وتنام حين تنامْ حلمكْ يصحى _يهتكْ ظلام اللّيلْ بالكلماتْ_

وما يسألكْ_إذا لسانكْ فصحى ولاّ لسانكْ عاميّ اللّفظاتْ_

كما الشّعر لعبةْ طفلْ حزن وفرحه يهتك بياض الصمت بالكلماتْ) ال

ألم يقرّ شيخُنا المسعدي أنّ الأدب مأساة أو لا يكون ؟ هذه إذن طريقة بوعلاّق يحاول ملكه بالشّعر بالحركةِ تحتجُّ عليهِ وتحتجّ بهِ والعناوينُ تغمضُ أو تفتحُ أبوابها تخرجُ المحكيَّ من الفصحى وتخرجُ الفصحى من المحكيّ والأمور بذلك دِولٌ يُسرُّ بها الطيّبُ ويُساءُ في التقبّل والإصغاء وفي المعرفة والفهم غرابة كينونة نذرت نفسها للوجود هكذا كنبيّ جبران أو كشحّاذ محفوظ من الاموات هكذا كرفقته من الاحياء والأسماء عديدة الغالي كمال أو العشّ عبد الجبّار والطّريق تشطب الطّريق.

خاتمة:

الطّيب بوعلاّق شاعر خصبٌ شدّد على الإقامة في الكلمة في كتابة تعدل عن المألوف في الفصحى العاميّة تغمره دافعيّة الإلتزام بقضايا الوجود وهو يرصد كلماته تنبع من الجوى حرّاقة تلزمه هو.يشغب منصته بالأجراس والأقباس إذ يوتّرها يواترها على غير منوال من نصّ إلى آخر ومن هزيمة إلى أخرى مثلّ بها إنتصاراته داخل اللّغة وخارجها.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق